فصل: مطلب في الرحمة واكتساب التأنيث والتذكير والمطر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا ما قصه اللّه على نبيه من حال آدم وإبليس وأحوال الذين عبدوا غيره، والذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم، وحال أهل النار وأهل الجنة وأهل الأعراف، هم التفت إلى نبيه صلّى اللّه عليه وسلم وقال مقسما {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ} أي قومك يا محمد {بِكِتابٍ} عظيم جليل أنزلناه عليك وقد {فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ} منا بوجه تفصيله ووضحنا حلاله وحرامه ومواعظه وأخباره وقصصه وأمثاله وجعلناه {هُدىً} لمن اهتدى به {وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 52} به فلما ذا لا يؤمن هؤلاء الكفرة كي يقتبسوا من أنواره وينتفعوا بنوّاره كغيرهم ممن ذاق حلاوته، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي أيتوقعون ما أوعدوا به من العذاب فيه، وما يؤول إليه أمرهم وهو النار تصديقا لوعده، فقل لهم يا أكمل الرسل {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} هو يوم هلاكهم في الدنيا أو يوم عذابهم في الآخرة وإذ ذاك {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} إتيان تأويله وتركوا امتثال أوامره ونواهيه {قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} أي يعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف، ويقولون حين نزول الموت بهم أو وقت تعذيبهم بالآخرة {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا} اليوم مما حل بنا على المعنيين لأن الآية صالحة لهما وموافقة لمعناهما وجائز تأويله بهما إذ لا طريق للخلاص منه إلا بالشفاعة {أو} إذا لم تكن شفاعة أمهلنا يا ربنا بأن {نُرَدُّ} إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ} الفاء واقعة في جواب الاستفهام مثل فيشفعوا أي نعمل عملا صالحا {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من السيء فنبدل الكفر بالتوحيد والعصيان بالطاعة فلا يجابون إلى طلبهم، وهيهات أن يزاد في أجل المحتضر أو يرجع أحد من الآخرة ولعدم وجود الشفيع وعدم إمكان إمهالهم أو إرجاعهم إلى الدنيا فإنهم {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بصرف أعمارهم التي هي رأسمالهم في الشرك والمعاصي {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ 53} في الدنيا من قولهم إن الأوثان آلهة وإن الملائكة بنات اللّه، وادعاء أهل الكتابين عزيرا والمسيح أبناء اللّه تعالى عن ذلك وعدم اعتراف اليهود بنبوة عيسى ومحمد والنصارى بنبوة محمد عليهم الصلاة والسلام.

.مطلب في السموات والأرض والعرش وآيات الصفات:

قال تعالى ردا على هؤلاء المغترّين: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} قدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 36.
من سورة ق المارة إذ لم يكن زمن خلق السموات شمس ولا قمر ليعرف الزمن، وهذا على حد قوله تعالى: {لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} الآية 61 من سورة مريم الآتية، أي بمقدارها في الدنيا بالنسبة لنا حسبما نعرفه لأن الجنه لا ليل فيها ولا نهار، ولهذا البحث صلة في الآية 9 من سورة فصلت في ج 2 فراجعه تعرف هذا وبدأ الأيام وآخرها وما خلق فيها، والمراد بالاستواء الاستيلاء وعليه قوله:
قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق

لأن الاستواء بمعناه المعروف محال على اللّه تعالى وهذه من آيات الصفات التي مر ذكرها في الآية 30 من سورة ق المارة وفيها ما ترشد إليه من المواضع الأخرى الباحثة عن هذا، وخصّ العرش بالذكر مع أنه مستول على المخلوقات كافة لأنه أعظمها وأعلاها ولا يعرفه البشر إلا بالاسم وهو بما وصفه اللّه تعالى به نفسه فتفسيره تلاوته كما مر تفصيله وللبحث فيه صلة في الآية 4 من سورة طه الآتية.
هذا وان المنقول عن جعفر الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك وغيرهم من أعلام الأئمة أن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والجحود له كفر والسؤال عنه بدعة، وقد ألمعنا إلى شيء من هذا أول سورة القمر المارة بأنه فلك الافلاك والفلك الأطلس وانه الجسم المحيط بسائر الأجسام ويكنى به عن العزة والسلطان والملك وقيل في المعنى:
إذا ما بنوا مروان ثلث عروشهم ** وأودت كما أودت إياد وحمير

وقول الآخر:
أن يقتلوك فقد ثلث عروشهم ** بعيينة بن الحارث بن شهاب

قال تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} يلبسه ظلمة حتى يذهب بنوره وكذلك يغشي النهار الليل فيغطيه بنوره حتى يمحق ظلامه ولم يؤت بالجملة الثانية لدلالة الأولى عليها كما مر في الآية 17 من سورة ق المارة {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} طلبا سريعا إذ نعقب أحدهما الآخر فيخلفه دون فاصلة ما وقيل فيه:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ** نطير غرابا ذا قوادم جوّن

وقال الآخر:
وكأن الشوق باب للدجى ** ماله خوف هجوم الصبح فتح

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ} جل علاه وتعريفه من طلوعهن وغروبهن وسيرهن ورجوعهن وسرعة دورانهن بانتظام بديع يتحركن بحركة الفا الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا رفع رجله وضعها بشدة عدوه تحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل حسبما يقوله الفلكيون، ويمكن أن يكون أكثر أو أقل لأن أقوالهم ظنية تقديرية، وهذا هو معنى الطالب الحثيث جلت قدرته الصانع الحكيم الذي جعل هذه الحركات مستمرة إلى انقضاء الدنيا وأوان خراب هذا العالم بصورة منتظمة وقد أفرد ذكر الشمس والقمر مع أنهما داخلان في النجوم بل هما منها لبيان شرفهما على سائر الكواكب، لا لزيادة نورهما الواصل إلى الأرض فقط بل لمعرفة الأوقات في سيرهما ومنازلهما وكثرة منافعهما في نمو النبات وطعمه وتلوينه وغير ذلك.

.مطلب التناكح المعنوي:

وقد ذكر اللّه الغشيان هنا والإيلاج في الآية 27 من آل عمران وغيرها لأنها مكررة كثيرا والمراد بهما التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات الملمع إليها في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الآية 3 من سورة الرعد في ج 3 وقبل توسع علم النبات ما كان أحد يعلم بازدواج النبات ووجود ذكر وأنثى في كل زهرة غير اللّه أنظر، كم من غيوب يكشفها اللّه لنا في هذا القرآن العظيم ونحن عنه غافلون وهذا أمر صحيح وان صح ذلك فما أصح قولهم في ضرب المثل للأمور المتوقعة الليلة حبلى وستلد العجائب هذا وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح والحاصل من هذا الغشيان على قولهم ما في العالم من معدن ونبات وحيوان وهو المواليد الثلاثة أو في جميع الحوادث على الإطلاق ومنه قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ** كر الغداة ومر العشي

لكن مع العلم والإيقان بأن المؤثر الحقيقي هو اللّه وحده وهو الذي خلق فيها تلك التأثيرات، اما أقوال المنجمين فقد تكون صحيحة وتكون فاسدة وكل ما ذكروه من تقدير فهو بالنسبة لما يبدو لهم في المكبرات من كبر النجوم وسيرها فيبنون علمهم وأقوالهم فيه على الظن والحدس لا على اليقين والصدق، تأمل.
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فرق بينهما ليعلم خلقه أن كلامه غير مخلوق لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله ولهذا قال سفيان بن عيينة من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة خلقه فقد كفر، ومن جمع بين الخلق والأمر فقد كفر فالخلق راجع لما ذكره من السموات والأرض والأفلاك، والأمر هو كلامه يأمر هذه المخلوقات وغيرها بما أراد كاملا، وكيف يكون من خلقه لها نقص أو زيادة وهو {تَبارَكَ} وتعالى: {اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 54} أجمع وخالقهم ورازقهم ومدير أمورهم.
راجع بحث خلق القرآن في المقدمة تعلم أن كلامه منزه ومقدس عن أن يكون مخلوقا.
قال في بدء الامالي:
وما القرآن مخلوقا تعالى ** كلام الرب عن جنس المقال

وهذا ولما اخبر جل اخباره بأنه المنفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يتذللوا اليه لكشف مهماتهم فقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} أيها الخلق {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} بما ترونه من مصالحكم الدنيوية والاخروية ولا تتجاوزوا فيها إلى مضرة غيركم فتعتدوا {إِنَّهُ} ربكم الذي يجيب دعائكم {لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 55} في الدعاء على الغير أو بطلب ما لا يليق بالداعي من المقامات، لأن الدعاء على الغير من غير ظلم منه تعد وطلب ما لا يليق اعتداء، ومن الاعتداء رفع الصوت لما فيه من قلة الأدب مع المولى ومجاوزة الحد في كل شيء اعتداء.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال صلّى اللّه عليه وسلم: أيها الناس اربعوا {أي ارفقوا بأنفسكم واقصروا عن الصياح في الدعاء} على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته.
قال أبو موسى وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم في نفسي فقال يا عبد اللّه ابن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت بلى يا رسول اللّه، قال: لا حول ولا قوة الا باللّه العلى العظيم.

.مطلب آداب الدعاء والقراءة:

وقال تعالى في الآية 3 من سورة مريم الآتية: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا} أي بما يسمع نفسه وهذا الحد كان في الدعاء كنفس الداع أما إذا كان الناس يؤمنون على دعائه فيرفع صوته بقدر ما بسمعهم وكذلك الجهر في الصلاة قال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها} الآية 112 من سورة الإسراء الآتية فإذا زاد على اسماع الغير فيكون عمل عملا مكروها في الصلاة، وكذلك إذا خافت إلى حد لا تسمعه الجماعه، وفي الخطبة أيضا ينبغي أن يلاحظ هذا الحد، إذ المقصود اسماع الحاضرين فقط فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم، أخرج أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب الأمر أن يقول اللهم اني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ثم قرأ {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وهذا هو الحكم الشرعي في الدعاء ومن آدابه أنه إذا خاف الرياء أخفى وإذا أمنه جهر بقدر الحاجة وهو الأفضل ويكره إذا خيف التشويش على قارئ أو مصل أو إيقاظ نائم أو مشتغل بعلم شرعي، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} ايها الناس بان تقطعوا السبل وتنهبوا الأموال وتعتدوا على الخلق بضرب أو قتل فايقاع الفساد على هذا الوجه هو خراب الأرض وإهلاك أهلها وكيف تخربونها {بَعْدَ إِصْلاحِها} ببعثة الرسل وبيان الشرائع بالنهي عن الفساد والأمر بالإصلاح والدعاء إلى طاعة اللّه وترك الكفر ودواعيه وتكذيب الرسل وجحود ما جاءوا به من عند اللّه فكل هذا فساد مناف للإصلاح الذي فيه قوام الكون {وَادْعُوهُ خَوْفًا} من عقابه وعدله {وَطَمَعًا} بثوابه وفضله متضرعين اليه مخبتين له ومعنى الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وتوقع مكروه يحصل، والطمع توقع أمر محبوب، وأحسنوا أيها الناس لأنفسكم وغيركم بالمحافظة على الأمن لأنه إذا فقد انقطعت الطرق وقلقت الناس، وتراحموا فيما بينكم {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 56} أعمالهم مع أنفسهم وغيرهم الذين يتأدبون بآداب اللّه فلا يتجاوزون حدوده في الدعاء والعمل مع اللّه ولا مع عباده امتثالا لامره وأمر رسوله فهؤلاء هم المحسنون، وتفيد هذه الآية أن غير المحسنين بعيدون من رحمة اللّه، ألا فليتق اللّه الذين يسيئون ويقولون اللّه غفور رحيم ولا يصرفون قسما من حياتهم في عبادة اللّه طلبا لهذه الرحمة والمغفرة.
وينبغي أن يجمعوا في طلب الرزق من الحلال ويقولوا اللّه كريم، ولا شك أن اللّه غفور رحيم ولكن هل تجد رحمة في كتاب اللّه مطلقة من قيد؟ كلا، فإنها في هذه الآية مقيدة بالإحسان، وفي آية 8 من سورة...

.مطلب في الرحمة واكتساب التأنيث والتذكير والمطر:

ومعنى ذا من تدبير حكمته تعالى فإنه يحرك الرياح بشدة فتثير السحاب يدل على هذا قوله جل قوله في الآية 22 من سورة الحجر في ج 2 {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ}، ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد فيحيل تلك الأبخرة المتراصة إلى ماء ثم يسوقه إلى حيث يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بدليل قوله: {سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} ما حل لا كلا فيه لأجل إحيائه بالغيث وإنبات الزرع فيه، والبلاد الميتة كثيرة فقد يختص منها ما يريده وقد يعم رحمته عليها كلها {فَأَنْزَلْنا بِهِ} أي البلد الميت {الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ} أي الماء المنعصر من تلك السحب أشجارا فيها {مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ} أي مثل هذا الإخراج بعد الاحياء {نُخْرِجُ الْمَوْتى} من قبورهم أحياء عند بعثهم بعد الموت، أي فكما نحي الأرض بعد موتها نحي الخلق بعد موتهم لا فرق علينا بينهما فاعتبروا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57} بالأمثال التي نضربها لكم لتعوا المراد منها وتتعظوا به، وقد ضربنا لكم هذا المثل يا منكري البعث وجاحدي إعادة الأجسام بأرواحها ليذكروا أن النبات عندنا بمثابة الإنسان بجامع الاعادة في كل قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} تراه {يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} بتيسيره حسنا وافيا {وَالَّذِي خَبُثَ} ترابه كالسبخة من الأرض {لا يَخْرُجُ} نباته بسهولة {إِلَّا نَكِدًا} عسرا بمشقة وكلفة قليلا لا خير فيه، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن، وهذا الطيب والخبيث يشملان الإنسان أيضا غالبا لأن الدّن ينضح بما فيه {كَذلِكَ} مثل هذا التصريف البديع {نُصَرِّفُ الْآياتِ} ونكررها المرة بعد الأخرى {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ 58} نعمنا على هدايتهم للتفكر في ذلك، لأن الحكمة من تكرارها سوق همّة البشر للاعتبار في مكونات اللّه، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى هنا للمؤمن الذي يؤثر فيه الوعظ وينتفع فيه فهو كالأرض الطيبة تؤتي أكلها ضعفين، والكافر الذي لا ينجع فيه ولا يأتمر به فهو كالأرض الخبيثة فإنها تجحد البذر ولا ينفعها السقي والحرث كما لا ينفع الكافر الزجر والنهي، وبعد هذه الأمثال شرع جل شأنه يقص على رسوله حالة إخوانه الأنبياء الماضين مع أممهم ليسليه عما يراه من قومة فقال مقسمه {لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا} بن لمك بن منوشلخ بن أخنوخ بن إدريس عليهما السلام وكان نجارا، وبعث على كمال الخمسين من عمره ودعا قومه تسعمائة وخمسين سنة لم يترك فيها طريقا من طرق النصح إلا أتاهم به، وحذر وأنذر وسلك اللين والخشوع طيلة هذه المدّة، ولم يؤمن من قومه إلا بعض ذويه، وعاش بعد إغراق قومه ستين سنة، فيكون عمره ألفا وستين سنة، وقيل له يا أطول الأنبياء عمرا كيف رأيت الدنيا؟ قال دخلت من باب وخرجت من آخر وهو أول نبي عذّبه اللّه قومه وأول من قاسى أشدّ الهوان وأكبر الأذى في سبيل الدعوة إلى اللّه، ومع أنه عمر في الدنيا ما عمر فقد ذمها وصغرها وقصر شأنها والناس لم يتعظو فيتهالكوا عليها مع علمهم أن مصيرها الفناء {إِلى قَوْمِهِ} الذين هو منهم.